فصل: مسألة شهادة الصبيان في القتل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة شهد أخوها وزوجها معه أنها كانت حلفت في شيء بعتق لتفعلنه:

وسئل المغيرة عن المرأة تتوفى، وليس لها وارث إلا بنات، فشهد أخوها وزوجها معه أنها كانت حلفت في شيء بعتق لتفعلنه، وأنها لم تفعله حتى ماتت، أتجوز شهادة أخيها، وزوجها معه أو ترد لجره الولاء إلى نفسه بشهادته؟ قال: لا تجوز شهادته، قلت: فهل يعتق عليهما حصتهما في الرقيق؟ فقال: نعم، يعتق عليهما، قيل: فهل يقوم عليهما ما بقي؟ قال: لا، وكان مالك لا يرى أن يعتق عليهما.
قال محمد بن رشد: قول المغيرة هذا مثل قول عبد العزيز بن أبي سلمة، في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، خلاف مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك فيه، وفي المدونة وغيرها، وقد مضى في السماع المذكور تحصيل القول في هذه المسألة، وتوجيه الاختلاف فيها، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة الغني إذا مطل:

وسئل سحنون عن قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مطل الغني ظلم» أترى أن تجوز شهادة الغني إذا مطل، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن مطله ظلم؟ فقال: لا أرى أن تجوز شهادته إذا مطل؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى مطل الغني ظلما، فمن كان ظالما، فلا ينبغي أن تجوز شهادته.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله من أن المعروف بالمطل من غير ضرورة، لا ينبغي أن تجاز شهادته؛ لأن مطل الرجل بحقه إذاية له في ماله، ولا يحل إذاية الرجل المسلم في ماله، كما لا يحل إذايته في دمه، ولا في عرضه، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته بعرفة: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، وبالله التوفيق.

.مسألة عبد وحر شهدا على رجل بقتل فقتل ولم يعلم السلطان ثم تبين له بعد ذلك:

وقال في عبد وحر شهدا على رجل بقتل فقتل، ولم يعلم السلطان ثم تبين له بعد ذلك، فقال: الذي قام بالدم فعليه الدية.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الذي قام بالدم فعليه الدية معناه عندي، إن كان علم أنه عبد، ولم يعلم الشاهد الحر، ولو علم الشاهد الحر أيضا؛ لوجب أن تكون الدية عليهما، وإن لم يعلم القائم بالدم، وعلم الشاهد الحر كانت الدية عليه، وإن لم يعلم واحد منهما كانت الدية على عاقلة الحاكم؛ لأن ذلك من خطئه، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على ما لمالك في كتاب الرجم من المدونة في الإمام، يقيم الحد على المرجوم، ثم يعلم أن أحد الشهود كان عبدا، والذي يوجبه النظر أن تكون الدية إذا لم يعلم واحد منهم على جميعهم: القائم بالدم، والشاهد الحر، والإمام لأنهم متشاركون في قتله خطأ؛ لأن شهادته لم ترد أولا فيستوجب الرد اليوم، ولكنها كانت جائزة.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما يأتي في سماع أبي زيد من أن الحق يرد ولا يقطع، ووجه قول سحنون أن شهادة العبد لما لم ترد أولا، لم يتهمه في إعادتها، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد أظهر؛ لأن الحكم بشهادة العبد حكم مردود، فإن أعاد العبد شهادته بعد عتقه اتهم في أن يريد إجازة شهادته التي قد وجب ردها، ونقض الحكم الذي وقع بها، وبالله التوفيق.

.مسألة الحدود تدرأ بالشبهات:

وعن أربعة شهدوا على رجل أنه زنى، وهو صحيح العقل، وشهد رجلان من غير الأربعة أنه زنى في ذلك اليوم الذي شهد فيه الشهود في ذلك الموضع، أنه قد كان ذاهب العقل، ليس معه عقله؟ قال سحنون: إن كانوا قاموا به إلى الحاكم وهو صحيح العقل، فالشهادة ماضية عليه بالحد، إذا صححوا الشهادة بما يثبت به الحد، وقول الشاهدين ليس ذلك بالذي يزيل ما ثبت من الحدود، وإن كان الرفع إلى الحاكم والرجل مجنون ذاهب العقل، فقد قال بعض أصحابنا: إنه يصرف عنه الحد؛ لأن الحد لله، وليس ذلك كحقوق الناس إذا رفع وبه الجنون.
قال محمد بن رشد: تفرقته بين أن يقام إلى الحاكم وهو صحيح، أو مجنون استحسان على غير قياس ولا أصل، والذي يأتي على الأصول أن يصرف عنه الحد، قاموا به إلى الحاكم، وهو صحيح أو مجنون؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وأي شبهة أقوى من أن يشهد له شاهدان عدلان أنه كان في وقت زناه مجنونا ذاهب العقل، وأما الحقوق، فالقياس فيها أن شهادة الصحة أعمل؛ لأنها أثبتت الحكم، وعلمت ما جهلته البينة الأخرى على ما في سماع أبي زيد في القوم، يشهدون أن المرأة أوصت في مرضها بكذا وكذا، وهي صحيحة العقل، ويقول آخرون: إنها كانت موسوسة، وما لأصبغ في سماعه من كتاب العتق، وقد قيل: إنه ينظر إلى أعدل البينتين، فإن استوتا في العدالة بطلت الوصية؛ لأن تكافؤهما يوجب سقوطهما جميعا، وإذا سقطتا حصل الشك في صحة عقله في حين إشهاده، وعلى هذا يأتي قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، من كتاب الوصايا، وفي سماع أصبغ من كتاب العتق في الذي يقول: إن مت من مرضي فغلامي فلان حر، وإن صححت منه فغلامي فلان حر لآخر، فشهد شاهدان له أنه صح من مرضه، وشهد آخران أنه لم يصح منه، معناه وتكافئوا في العدالة، أنه يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأنه رأى الشك في صحته من مرضه حاصلا بتكافؤ البينتين، فأعتق من كل واحد منهما نصفه؛ إذ لا يدري من هو الذي وجب له العتق منهما، ويتخرج في المسألة قول ثالث: إن شهادة المرض أعمل؛ لأنهم قالوا: رأينا منه اختلاطا في ذمته حين أشهدنا. وقال الآخر: لم نر منه اختلاطا؛ فوجب أن تكون شهادة من أوجب الاختلاط أولى من شهادة من نفاه، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة الذي يطأ الجارية يشتريها قبل أن يستبرئها:

وسئل سحنون عن الرجل يشتري الجارية فيطؤها قبل أن يستبرئها، أترى تقبل شهادته؟ فقال: لا، قال: وأرى أن يؤدب مع طرح الشهادة أدبا موجعا إذا كان عالما بمكروه ذلك، قيل له: فإن كانت صبية لم تبلغ المحيض فوطئها قبل أن يستبرئها؟ فقال: إذا كان مثلها يوطأ، فلم يستبرئها، فسبيلها سبيل التي قد حاضت من طرح الشهادة والعقوبة.
قال محمد بن رشد: أما سقوط شهادة الذي يطأ الجارية يشتريها قبل أن يستبرئها، وهي ممن يحمل مثلها، ووجوب الأدب عليه إذا كان ممن لا يجهل فبين؛ لأن ذلك أمر متفق على تحريمه بوجهين؛ أحدهما: نص النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من المنع من ذلك بقوله: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض»؛ والثاني: القياس على ما أوجبه الله تعالى على الحرة من عدة الطلاق والوفاة بقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] فنهى عن العقد لما كان سببا إلى الوطء، فكيف بالوطء؛ لأن المعنى في ذلك في الحرة والأمة سواء، وهو ما يخشى من اختلاط الأنساب، وأما الصبية التي لم تبلغ المحيض ومثلها يوطأ، فإن كان الحمل مأمونا عليها، فلا تسقط شهادة من وطئها قبل أن يستبرئها؛ إذ قد قيل: إنه لا استبراء فيها، روى ذلك علي بن زياد، عن مالك، قال: وهو الأمر عندنا، وهو أحسن ما سمعت، ومعنى ما ذهب إليه سحنون أن التي لم تبلغ المحيض إذا كان مثلها يوطأ، فلا يؤمن أن يكون ذلك الوقت حد بلوغها، ومحيضها، فتحمل قبل أن تحيض، والله أعلم.

.مسألة كتاب قاض إلى قاض في الزنا:

قال سحنون: لا يثبت كتاب قاض إلى قاض في الزنا إلا بأربعة شهداء على أنه كتابه، كما أنه لا تقبل شهادة على الزنا إلا بأربعة، فكذلك لا يثبت فيه كتاب قاض إلا بأربعة، قلت له: من يقول هذا؟ قال: أنا أقوله من قبل أنه لا يجوز للقاضي المكتوب إليه أن ينفذ كتاب القاضي الكاتب إليه إلا بشهادة من يجوز على أصل الحق، ولا بينة عنده بأقل من ذلك.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا يأتي على رواية مطرف عن مالك في أن الشهادة على الشهادة في الزنا لا تجوز فيها إلا أربعة على كل واحد من الأربعة، اجتمعوا على الشهادة على جميعهم، أو افترقوا مثل أن يشهد ثلاثة على الرؤية، ويغيب واحد، فلا تثبت شهادته إلا بأربعة، وابن القاسم يقول: يجوز أن يشهد على شهادته اثنان، وهو مذهب ابن الماجشون، فيأتي على قولهما أنه يجوز أن يشهد على كتاب القاضي في الزنا شاهدان، وهو الذي يوجبه القياس والنظر؛ لأن الشهادة قد تمت على الزنا بأربعة شهداء، فلا يحتاج إلى إثبات قول القاضي بكتابه ينبغي أن يثبت في الزنا بما يثبت في غير الزنا؛ إذ لا فرق ببن الموضعين فيما يلزم الشاهد في تحمل نقله؛ لأنه قول في الوجهين، وبالله التوفيق.

.مسألة الفقيه يخرج إلى الصيد منتزها هل يجرح مثل هذا شهادته:

قال سحنون: وسألته عن الرجل الفقيه الفاضل الصالح يخرج إلى الصيد منتزها، هل يجرح مثل هذا شهادته؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ذلك ليس بحرام، إنما هو مكروه، فتركه أحسن، ومن أهل العلم من أجازه ولم ير فيه كراهة، وبالله التوفيق.

.مسألة يتداعيان في الشيء لا يعرفانه فقالا جميعا قد رضينا بشهادة فلان:

قال في رجلين يتداعيان في الشيء لا يعرفانه، فقالا جميعا: قد رضينا بشهادة فلان، قال سحنون: يلزمهما ما شهد به فلان عليهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.

.مسألة شهادة من ثبت عليه حد من الحدود:

وسئل سحنون عن المحدودين في القذف أو الزنا هل تجوز شهادتهما في القذف والزنا؟ والمحدود في شرب الخمر والسرقة هل تجوز شهادته في شرب الخمر والسرقة إن تابوا؟ قال: لا تجوز شهادة من ثبت عليه حد من الحدود، كائن ما كان وأقيم عليه في مثله الحد، وهو يجري مجرى شهادة ولد الزنا أنه لا تجوز، وهو كان أبعد في الغيرة، وإنما ترد فيه بالتهمة أن يكون الناس له أسوة، وقاله أصبغ، قلت: فرجل جنى على رجل جناية فاقتص لتلك الجناية، هل تجوز شهادته في مثل الجرح الذي اقتص به منه؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: إنه لا تجوز شهادة أحد فيما حد فيه من الحدود، وإن تاب هو أحد قولي مالك، روى عنه مطرف وابن الماجشون أنها لا تجوز، وروى عنه ابن نافع وابن عبد الحكم أنها جائزة، وهو قول ابن كنانة وظاهر ما في الديات من المدونة، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما، واختلف في ذلك أيضا قول أصبغ، فله في الواضحة مثل قول سحنون، ورواية مطرف، وابن الماجشون، وفي الثمانية مثل قول ابن كنانة، ورواية ابن نافع وابن عبد الحكم، وشهادة ولد الزنا في الزنا، وفي نفي الرجل عن أبيه جارية على هذا الاختلاف، والمشهور من قول ابن القاسم أنها لا تجوز، فهو قوله في سماع أبي زيد من هذا الكتاب، وفي سماع عيسى، من كتاب الحدود، وظاهر ما في الديات من المدونة أنها جائزة، واختلف إذا شهد أربعة على الزنا أحدهم ولد زنا، فقيل: إنهم يحدون كما لو كان أحدهم عبدا، وهو قول أصبغ ومذهب ابن القاسم في المدونة؛ لأنه قال فيها إذا شهد على المرأة أربعة شهود بالزنا؛ أحدهم زوجها جلد الثلاثة، ولاعن الزوج، ولا فرق بين المسألتين، وقيل: إنهم لا يحدون بخلاف إذا كان أحدهم عبدا، وهو قول ابن أبي حازم في المبسوطة واستحسان ابن القاسم فيها، وأما إن لم يعثر على أنه زوجها، أو على أنه ولد زنا حتى أقيم الحد، فيدرأ الحد عن الثلاثة، ويحد ولد الزنا والزوج إلا أن يلاعن، واختلف هل يرثها إن كانت رجمت؟ فقال ابن القاسم: إنه يرثها إلا أن يعلم أنه تعمد الزور، أو يقر بذلك على نفسه له قتلها. قال غيره: لأن الله فرض له الميراث، فلا يمنع منه بظن، وقال أصبغ: لا يرثها؛ لأن عليه اللعان وهو يجرحه من أن يكون شاهدا، وأرى فيه تهمة العامد لقتل وارثه، والسنة ألا يرث عامد من دية من قتل شيئا، ولا من ماله، وهذا الاختلاف يدخل بالمعنى في إجازة شهادة الأب على ابنه الموسر بقتل عمدا أو زنا، وهو محصن، وقد مضى القول على ذلك في أول سماع سحنون. وأما قول سحنون في أن شهادة الرجل لا تجوز في جرح اقتص منه في مثله، فهو شذوذ أغرق فيه في القياس، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة الصبيان في القتل:

من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد بن خالد: سمعت ابن القاسم يقول: إن شهادة الصبيان تجوز في القتل كما تجوز في الجراحات.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في آخر سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وإنما تجوز شهادتهم في القتل إذا شهد العدول على رؤية البدن مقتولا، روى ذلك ابن القاسم عن مالك، وقاله غير واحد من أصحابه، ولا يدخل في هذا عندي الاختلاف الذي ذكرناه في رسم أوصى، من سماع عيسى، في شهادة المرأتين في الاستهلال وقتل الخطأ لضعف شهادة الصبيان، وبالله التوفيق.

.مسألة شهدا لرجل بمائة دينارأحدهما أنها له من بيع باعه إياه والآخر من سلف:

قال ابن القاسم في رجل توفي وترك ولدا صغيرا وورثة معه، فقام لولده الصغير شاهدان على غلام من غلمان أبيه، فقال أحدهما: إن أباه تصدق عليه به في حياته، وشهد آخر أنه نحله إياه في صحة منه، إن كان الغلام قد بلغ الحلم حلف مع شاهده على الصدقة ثم يستحقها، وإن كان صغيرا لم يبلغ، وخيف على الغلام بيع ووقف المال حتى يبلغ الحلم، فإن حلف استحق ثمنه، وإن نكل عن اليمين كان ميراثا، قال: فكلمت ابن القاسم في ذلك وقلت له: إنهما قد اجتمعا له، وإن كان قد اختلفا في بعض الشهادة على قطع الحق، فقال: لا أرى أن تثبت له الصدقة إلا بيمين، وقال: أرأيت لو أن شهيدين شهدا لرجل بمائة دينار، فشهد أحدهما أنها له من بيع باعه إياه، وشهد الآخر أنها له قبله من سلف أسلفها إياه؟ قال ابن الماجشون: الشهادة تامة، وذلك أنهما قد اجتمعا على إخراجها من يديه بغير شيء يجب على المدعي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تقدمت في سماع سحنون، ووقعت أيضا في رسم الدور والمزارع من سماع يحيى دون جواب، ومضى القول عليها مستوفى في رسم العرية، من سماع عيسى، لما اقتضاه من القول فيها، فذلك يغني عن إعادته، وإنما يكون له على قول ابن الماجشون أخذ المائة دون يمين، إذا ادعى ما قاله أحدهما، وأما إن ادعى المائتين جميعا، فقد أكذبهما إذا قالا: إنها شهادة واحدة، وقد مضى القول على هذا مستوفى في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة الغائب الواحد:

قال محمد بن خالد: سمعت ابن القاسم يقول: شهادة الغائب الواحد مقبولة إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، في أول نوازل سحنون، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة شهد كل واحد منهما لصاحبه أن الميت أوصى له:

نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج قال: سئل أصبغ عن رجلين شهدا على وصية، فشهد أحدهما: أن الميت أوصى لصاحبه بوصية مال بكذا وكذا، وشهد الموصى له أيضا أن الميت أوصى للشاهد بوصية مال أيضا، فشهد كل واحد منهما لصاحبه أن الميت أوصى له، قال: إن كانا شهدا على كتاب واحد، وفيه هذه الوصايا لهما جميعا، فشهادتهما باطلة؛ لأن كل واحد منهما شهد لنفسه ولغيره، والوصية لها بال؛ لأنهما يشهدان على جميع ما في الكتاب ويثبتان الوصية بشهادتهما، وفيها وصية لكل واحد منهما لها بال وقدر، فهما متهمان في شهادتهما، فشهادتهما ساقطة في جميع الوصية يسقط ما كان فيها من وصاياهما وغير وصاياهما، قال: وأما لو شهدا على غير كتاب ولا وصية مكتوبة فيها هذه الوصايا، ولكن أتى هذا فشهد أن الميت أوصى لفلان بكذا وكذا، ثم قام المشهود له بالوصية، فشهد عند ذلك القاضي أن الميت أوصى لفلان الذي شهد له بالوصية بكذا وكذا، رأيت شهادتهما جائزة، شهادة كل واحد منهما لصاحبه لا تهمة على واحد منهما فيها؛ لأنهما لم يشهدا على كتاب تجتمع فيه الوصايا، فيتهمان بأن يثبتا وصاياهما ووصايا غيرهما، وإنما شهد كل واحد منهما منفردا بالشهادة لغيره ليس لنفسه فيها شيء، فأرى أن يحلف كل واحد منهما مع صاحبه الذي شهد له، ويستحق حقه ووصيته.
قال محمد بن رشد: أما إذا شهد كل واحد من الشاهدين لصاحبه أن الميت أوصى له بوصية لها قدر وبال، والوصية لهما بكتاب واحد، فما قاله من أن شهادتهما باطلة لا تجوز وتسقط لهما ولغيرهما هو المشهور في المذهب، وقد قيل: إن شهادتهما تجوز لغيرهما، وهو الذي يأتي على قياس قول أصبغ بعد هذا في هذه النوازل في العبدين، يشهدان بعد عتقهما أن الذي أعتقهما غصبهما من رجل مع مائة دينار إن شهادتهما تجوز في المائة، ولا تجوز في غصب رقابهما؛ لأنهما يتهمان أن يريدا إرقاق أنفسهما، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب.
وأما إذا شهد كل واحد منهما لصاحبه أن الميت أوصى له بكذا وكذا بغير كتاب، أو كانت وصية كل واحد منهما في كتاب على حدة، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن شهادة كل واحد منهما لصاحبه جائزة، يحلف معه، ويستحق وصيته، وإن كانت شهادة كل واحد منهما لصاحبه في مجلس واحد، وهو ظاهر قول أصبغ هذا، وظاهر قول سحنون في نوازله. والثاني: أنها لا تجوز وإن كانت في مجالس شتى، وهو أحد قولي سحنون حكاه ابنه عنه. والثالث: الفرق بين أن تكون شهادتهما في مجلسين، أو في مجلس واحد، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وقد مضى هذا في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.

.مسألة هلك وترك ابنته وأخوين له فأسلم الأخوان ميراثهما لابنته:

وسئل أصبغ عن رجل هلك وترك ابنته وأخوين له، فأسلم الأخوان ميراثهما لابنته، وخرجا عنه إليها في مرض أبيها، وقبل موته، وبعد أن حجب ماله عنه، وذلك أن الابنة طلبت ذلك إليهما وسألتهما أن يسلما إليها مالهما في ميراث أبيها ففعلا ذلك بها وأسلما ذلك إليها كل ما تصير إليهما من ميراث أخيهما، فلما مات الأب وجدت الابنة ذكر حق لأبيها على رجل بشهادة الأخوين اللذين أسلما الميراث إليها.
هل تجوز شهادتهما لها، وقد كان هذا الذكر الحق مما خرجا منه إليها مع ما بقي من ميراثه؟ قال: نعم، شهادتهما جائزة لا تهمة عليهما فيها؛ لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بذلك شيئا؛ لأنهما قد خرجا من جميع ذلك، وذلك قبل أن يصير إليهما بالملك التام؛ لأنه إنما كان محجوبا عن ماله لهما إن مات ليس أنهما أولى بماله منه، ولو كان المال وجب لهما وجوب ملك كما يملك الرجل ماله، ثم وهباه لرجل لم يكن لهما فيه شهادة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى معناها في رسم العتق، من سماع عيسى، والكلام عليها مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة شهد لامرأة بشهادة وأثبتها القاضي ولم يحكم بها حتى تزوج الشاهد تلك المرأة:

وسألته عن رجل شهد لامرأة بشهادة، وأثبتها القاضي، ولم يحكم بها حتى تزوج الشاهد تلك المرأة، أترى أن يحكم القاضي بها؟ قال أصبغ: نعم، وليس هذا مثل الذي يوصي لرجل بوصية وليس هو وارثه، ثم يكون وارثه بعد ذلك، فلا تجوز تلك الوصية... على هذا فرق بين ذلك أن الشاهد إنما كانت ترد شهادته بالظنة، والظنة هاهنا إنما حدثت بعد الشهادة، ألا ترى لو أن رجلا شهد على رجل بشهادة، ولم يقض بها حتى كانت بينه وبين المشهود عليه خصومة ودعوى لم يبطل ذلك شهادته، وجازت عليه إذا كان قد شهد بها قبل الخصومة والظنة والتهمة، وإن كانت لم تنفذ فهي الآن تنفذ، ولا ترد لما ذكرت إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: شهادة الشاهد تسقط بوجهين؛ أحدهما: التهمة في الشهادة بالعداوة وبالظنة؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، ولا جار إلى نفسه». والثاني: الجرحة في الدين؛ لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
فإذا شهد الرجل بشهادة وهو مجرح في دينه، أو متهم في شهادته؛ لم تجز شهادته، وأما إن شهد بشهادة وهو عدل غير متهم في ظاهر أمره، فقبلت شهادته، ثم حدث بعد قبولها، وقبل الحكم بها ما لو علم قبل قبولها لم يقبل، ففي ذلك تفصيل، أما التهمة بالعداوة تحدث، والظنة تقع، فلا يؤثر ذلك في إجازة الشهادة إلا أن يعلم لذلك سبب قبل أدائها مثل أن يشهد الرجل للمرأة، ثم يتزوجها، فيشهد عليه أنه كان يخطبها قبل أن يشهد لها وما أشبه ذلك، فإن شهادته تبطل بدليل قول ابن القاسم في سماع حسين بن عاصم في الرجل يشهد على الرجل أنه حلف بطلاق امرأته البتة إن تزوجها قبل أن يتزوجها، فأتى المشهود عليه ببينة تشهد له أن الشاهد كان يخطب هذه المرأة قبل أن يتزوجها، هو أن شهادته تبطل، ولأصبغ في ثمانية أبي زيد أن الشاهد إذا خاصم المشهود عليه بعد الشهادة لم تبطل شهادته، إلا أن يقر أن الذي يطالبه به من ذلك كان قبل إيقاع الشهادة، وأما الجرحة بالأحداث يظهر منه مثل أن يقتل، أو يجرح، أو يزني، أو يسرق، أو يشرب خمرا، أو يقذف حرا، وما أشبه ذلك؛ ففيه اختلاف، قيل: إن ذلك كله يبطل الشهادة، وهو قول مطرف وأصبغ، وروايته عن ابن القاسم، وقيل: إنه ما كان من ذلك يستسر به كالزنا والسرقة والشرب وما أشبه ذلك؛ بطلت به الشهادة؛ إذ لا يؤمن أن يكون قديما قبلها، وما كان منه لا يستسر به، ويعلم أنه كان خلوا منه يوم شهد كالقتل والجراح والقذف وما أشبه ذلك، لم تبطل به الشهادة كما لا تبطل بالخصومة والتزويج، وهو قول ابن الماجشون، وظاهر قول أصبغ هذا أن مجرد الخصومة في القليل والكثير توجب العداوة بين المتخاصمين، وتسقط شهادة أحدهما على صاحبه، وهو ظاهر ما في أول سماع أشهب أيضا، وفي ذلك اختلاف قد مضى تحصيله هناك، وبالله التوفيق.

.مسألة شهد أن هذه الدار لأبيه مات وأوصى بها لفلان:

وسئل عن رجل شهد أن هذه الدار لأبيه، مات وأوصى بها لفلان، والدار في يد رجل ينكر ذلك، أترى أن تجوز شهادته، والدار تخرج من الثلث؟ قال أصبغ: لا، أرى أن تجوز شهادته مخافة أن يطرأ على أبيه دين، فيرجع في الدار، فيكون قد انتفع بذلك، ولقد كان وقع في قلبي منها شيء ثم تبين لي بعد ذلك أنه لا تجوز شهادته في هذا.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله؛ لأن الموصى له إنما يأخذ وصيته على ملك الميت الموصي إن قبلها، وإن لم يقبل كانت لجميع الورثة، فهو بشهادته جار إلى نفسه، وبالله التوفيق.

.مسألة يقول الرجل في تعديل الرجل هو عدل:

قال أصبغ: لا أحب أن يقول الرجل في تعديل الرجل: هو عدل، وليقل: أراه عدلا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في أول نوازل سحنون، فلا معنى لإعادته.

.مسألة شهد عند القاضي بشهادة لرجل على رجل:

وسئل عن رجل شهد عند القاضي بشهادة لرجل على رجل، والمشهود عليه قائم يسمع، فلما فرغ من شهادته تحول إلى المشهود عليه فقال له والقاضي يسمع: إنك تشتمني وتشبهني بالمجانين، وتهددني، وما أشبه ذلك من الكلام، ألا ترى أن يطرح القاضي بهذا الكلام شهادته عنه؟ فقال: لا أرى أن يطرح شهادته عنه بهذا الكلام وما أشبهه، إلا أن يثبت بينهما عداوة قديمة بينة، فتطرح شهادته عليه، وأما مثل هذا الكلام فما أراه شيئا.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في الثمانية أن قوله هذا إن كان على وجه الشكوى والاستنهاء من الأذى، ولم يكن على وجه مطلب خصومة، ولا سمى السمة، فلا أراه شيئا، وإن سمى السمة، وهي مما إن قام بها كان في مثلها خصومة ومطالبة، أو كان ذلك منه على وجه الطلب له بالخصومة، وإن لم يسم السمة ساعته، فأرى شهادته ساقطة، وهو مفسر لقوله هاهنا، ولابن الماجشون في الثمانية أن شهادته تبطل بهذا القول، ولا تجوز؛ لأنه قد أخبر أنه عدوه، فكيف تجوز شهادته عليه؟ قال: فلو قال ما هو أدنى من هذا؛ لكان فيه طرح شهادته، وقول ابن الماجشون أظهر وأولى بالصواب، والله أعلم.

.مسألة ليس لحر أن يرق نفسه:

وعن رجل هلك ولم يترك وارثا غير ابن عم له فيما يرى الناس، فأعتق ابن العم غلامين مما ورث عن الهالك، فشهدا بعد عتقهما أن سيدهما أشهدهما في حياته أن جاريته فلانة حامل منه، ثم ولدت الجارية، قال أصبغ: لا شهادة لهما؛ لأن شهادتهما ترقهما، وليس لحر أن يرق نفسه، وليس هذا من الشهادة التي يقال لا يتهمان فيها فتجوز، ولا من الأشياء التي يؤخذ فيها بإقرارهما بالعبدية.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إلا أن في إجازة شهادتهما إبطال عتقهما، وفي إبطال عتقهما رد شهادتهما، فإذا كانت الإجازة توجب الرد، وجب أن تكون مردودة، وبالله التوفيق.